ادعمنا

الإبادة الجماعية - Genocide

عرف العالم العديد من النزاعات والحروب التي وقع ضحيتها بعض الشعوب نتيجة التذرع بها للقيام بأعمال تنتهك حقوق الإنسان. وقد تم استخدام وسائل عديدة لضمان تفوق قوة الدولة للتخلص من كل ما يمكن أن يشكل تهديداً لمصالحها أو خطراً عليها. فخلال الحرب العالمية الثانية ظهر مفهوم الإبادة الجماعية الذي لم يكن موجوداً من قبل هذه المرحلة. وبعدها أخذت الابادة الجماعية تنتقل لتطبق في أماكن ومراحل أخرى من قِبل مرتكبين جدد، اعتبروها وكأنها الضربة القاضية للخصوم. وقد لاقت معارضة واسعة اذ أنها تتعارض مع حقوق الانسان وحرياته. فحاول النظام العالمي الجديد من خلال المنظمات والاتفاقيات مكافحة هذه الجريمة ومعاقبة مرتكبيها للحد من اعادة اللجوء إليها التي تعرض جماعات أخرى للقتل. فإلى أي مدى نجحت الجهود الدولية للجم ارتفاع إمكانية حصول الإبادة الجماعية في العالم المعاصر؟ 

 

تعريف مصطلح الإبادة الجماعية 

بالاستناد إلى المعجم الكافي فإنّ "أبادَ إبادةً (بيد) ه: أهلكه. – الشيء: أضاعه." كما أنّ ورد ضمن القاموس المحيط أن أبِد يعني "غضِب، وتوحَّشَ." وتبعاً لقاموس بنغوين للعلاقات الدولية فورد تعريف الإبادة الجماعية فيه كالتالي: "يرد تعريف هذا الفعل أو سلسلة هذه الأفعال في الاتفاقية المعنية بالإبادة الجماعية (Genocide Convention) لعام 1948. كان رفائيل ليمكين (Rafael Lemkin) أول من استخدم هذا المصطلح في دراسته عام 1944 المتعلقة باحتلال أوروبا من قبل دول المحور". وليتضح المقصود بتعريف بنغوين باستشهاده بالاتفاقية المعنية بالإبادة الجماعية، فسيُذكر تعريفها كما نصت "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" ضمن المادة الثانية منها: "في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أعضاء من الجماعة. (ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. (ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً. (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى."

 

مفهوم الإبادة الجماعية 

إنّ أول من صاغ مصطلح الإبادة الجماعية هو رفائيل ليمكين في كتابه "دور المحور في أوروبا المحتلة"، وهي "من الجذر اليوناني (genos) الذي يعني قبيلة أو جنس، ومن اللاحقة اللاتينية (-cido) التي تعود إلى الجذر اللاتيني (accido) الذي يعني القتل العمد أو المجزرة." ويقصد بها قتل الجماعة أو إبادة الجماعة، متأثراً بالجرائم التي ارتكبت من قبل النازيين في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية. "ثم أورد تعريفاً لتلك الجريمة مضمونه أن 'كل من يشترك أو يتآمر للقضاء على جماعة وطنية بسبب يتعلق بالجنس أو اللغة أو حرية أو ملكية أعضاء تلك الجماعة يعد مرتكباً لجريمة إبادة الجنس البشري'." فهو اعتبرها جريمة يهدف المشتركون أو المحرضون عليها القضاء على جماعة ما بسبب اختلافاتهم.

وقد عرفت هيلين فاين- Helen Fein الإبادة الجماعية على أنها "'فعل موجه مستمر على يد جانٍ لغرض التدمير الفعلي لمجموعة ما بصورة مباشرة، أو من خلال منع التناسل الحيوي والاجتماعي لأعضاء المجموعة، ومستمر بغض النظر عن استسلام الضحايا أو انعدام الخطر المتأتي منهم'." وقصدت فاين بهذا التعريف أن الهدف الأساسي هو تدمير الجماعة بمختلف الوسائل وإن لم تقاوم هذه الجماعة. 

كذلك ذكر وليم نصّار أن جريمة الإبادة الجماعية "هي جريمة القتل الجماعي لمجموعة من البشر تتم على أساس تمييزي بقصد فنائهم الكلي كعرق أو شعب أو مجموعة متميزة على أساس تمييزي بقصد فنائهم الكلي كعرق أو شعب أو مجموعة متميزة مستقلة حضارياً أو ثقافياً أو لغوياً أو دينياً أو لأي سبب يميزهم من الباقين. حيث يعتبر نصّار أن الهدف من هذه الجرائم أو غيرها من الجرائم ضد الإنسانية هو بقصد تحقيق التطهير العرقي.

 

الاتفاقية الخاصة بالإبادة الجماعية 

"شكلت جريمة الإبادة الجماعية وعلى مر العصور التاريخي مصدراً خطراً على الإنسانية، لكونها تسببت في هلاك الآلاف من الأبرياء." بعد المذابح التي حصلت خلال الحرب العالمية الأولى والمحرقة خلال الحرب العالمية الثانية وقيام ليمكين بأبحاث وحملات في هذا المجال، اتخذت الأمم المتحدة إجراءات لمنع قيام مثل هذه الجرائم لاعتبارها أنها تتعارض مع الأهداف والمبادئ التي تنادي بها. وكانت أبرز هذه الإجراءات في العام 1946 حيث "أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً باعتبار الإبادة الجماعية (أو إبادة الجنس) جريمة دولية يستنكرها الضمير الإنساني. وفي 9/12/1948، أقرّت الجمعيّة العامة الاتفاقيّة الخاصة بالوقاية من جريمة الإبادة الجماعية وتوقيع العقاب على من يرتكبها. ودخلت مرحلة التنفيذ في 12/1/1951." وقد تضمنت هذه الاتفاقية ثلاث عشرة مادةً تسبقها مقدمة لتعليل دوافع الاتفاق عليها، إذ رأت الأطراف المتعاقدة أن الإبادة الجماعية ألحقت خسائر عديدة للبشرية وللتخلص من هذه الآفة لا بدّ أن يكون هناك تعاون دولي. وبذلك قد نصت المادة الأولى منها على أن: "تصادق الأطراف المتعاقدة على الإبادة الجماعية، سواء ارتكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب، هي جريمة بمقتضى القانون الدولي، وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها." وهذا ما يعني أنه تمّ الاعتراف بالإبادة الجماعية كونها جريمة دولية على الدول أن تحد منها لمنع حدوثها وأن وتعاقب عليها.

 

أفعال الإبادة الجماعية

هناك مجموعة من الأفعال تصنف تبعاً للقانون الدولي ضمن جرائم الإبادة الجماعية وهي التي لحظتها المادة الثانية من الاتفاقية كما ذكرنا آنفاً. وهي تتجلى فيما يلي:

- قتل أعضاء من الجماعة: وهي الجريمة التي "تنظمها سلطة ما ضد مجموعة أو مجموعات مختلفة قومياً أو اثنياً أو عرقياً أو دينياً أو لأي سبب آخر يدعو إلى التمييز". وهي تتسم بالوضوح نسبةً للأساليب والممارسات الأخرى للإبادة.

- إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة: وهذا النوع من الإبادة يتمثل بإهانة الجماعة والانتقاص منها واعتبارها بدرجة أدنى. كذلك قد تشمل "الاضطهاد والتعذيب والإهانات والاغتصاب، وربما اجراء التجارب العلمية على الضحايا، بما يتسبب بعاهات مستديمة فيهم أو حتى موتهم." ويضاف إليها أساليب الاستعباد الجنسي وعمل السخرة والتمييز العنصري.

- إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً: والمقصود بها استبدال القتل المباشر باهلاك الجماعة من خلال فرض أحوال معيشية صعبة لإلحاق الضرر بها. وذلك من خلال الحرمان من مقومات المعيشة مثل الماء أو الطعام أو الدواء وذلك يؤدي إلى التخلص من الجماعة بهذا الأسلوب من الإبادة. 

- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة: يهدف هذا النوع من الإبادة إلى منع تكاثر المجموعة والتوالد لمنع استمرارهم ووجودهم كمجموعة متميزة. وهذا النوع من الإبادة يتسبب بفراغ جيلي وحتى يدخل ضمنها الاغتصاب لتغيير النسل ضمن الجماعة.

- نقل أطفال من الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى: ويتم هذا الفعل لإبعاد الجيل الجديد عن الجماعة ولكي يتم تربيتهم على أنهم متميزين عن جماعتهم الأصيلة لكي لا يكون هناك تقارب فيما بينهم وهذا ما يضعفها.

 

مراحل الإبادة الجماعية

لقد حدد غريغوري ستانتن- Gregory H. Stanton مراحل عشر تمر بها الإبادة الجماعية يمكن تنبؤها لاتخاذ اجراءات وقائية لمنعها وايقافها. فالمرحلة الأولى هي مرحلة التصنيف، أي يبدأ الحديث في هذه المرحلة عن تصنيف الناس للتمييز "بين 'نحن وهم' على أسسٍ اثنية أو عرقية أو دينية أو الجنسية: كالألمان واليهود، وقبيلتي الهوتو والتوتسي." ويعتبر أنه في هذه المرحلة لا بدَّ البحث عن قواسم مشتركة من أجل الوقاية المبكرة من الإبادة الجماعية. أما المرحلة الثانية هي مرحلة الترميز، فيعتبر ستانتن أن تطبيق رموز معينة مبنية على التصنيفات قد يمهد لارتكاب ابادة اذا كانت الرموز والتصنيفات مبنية على الكراهية. ففي هذه المرحل رفض الترميز ووضع ضوابط قانونية يؤدي إلى الوقاية. كذلك إنّ المرحلة الثالثة هي التمييز، حيث يتم فيها حسب اعتباره على الأسس التي يقوم التصنيف عليها. فيتم حرمان بعض الجماعات من حقوقهم أو حتى الجنسية. والمطلوب في هذه المرحلة تمكين كافة الفرقاء من المشاركة السياسة وحظر كافة أشكال التمييز. بالإضافة إلى المرحلة الرابعة هي التجريد من الإنسانية، حيث يتم فيها اعتبار الجماعة الأخرى أقل من الإنسان وغرباء عن مجتمعهم وتنتشر خطابات الكراهية. ويعطي ستانتن بعض المقترحات للتعامل مع هذه المرحلة مثل اقفال المحطات الاعلامية التي تحرض على الكراهية وادانة هذه الخطابات محلياً ودولياً. كما أنه يعرض المرحلة الخامسة وهي التنظيم، حيث يعتبر ستانتس أنّ في هذه المرحلة يتم التنظيم سواء بشكل رسمي أو غير رسمي مثل العصابات ويتم فيها التدريب والتسلح. وأشار إلى ضرورة حظر التسلح على الدول المتورطة بمثل هذه الجرائم وحظر العضوية في الميليشيات وغيرها من الإجراءات... هذا وقد تحدث عن المرحلة السادسة التي تتمثل بالتباعد، حيث يعتبر ستانتس أنه في هذه المرحلة تعمل الجماعات المتطرفة على التباعد بين الجماعات لتقلص التفاعل الاجتماعي. ويعتبر أن الوقاية هنا تكون من خلال دعم الجماعات المعتدلة ومنظمات حقوق الانسان وفرض عقوبات دولية على المتطرفين. وبالانتقال إلى المرحلة السابعة، فإنها التحضير، أي التحضير للقيام بالحل النهائي ويتم فيها تخويف الناس من الجماعة الأخرى والتحريض على القيام بها. ومن تدابير الوقاية التي يعطيها ستانتس أن يتم معاقبة المحرضين على قيام الابادة الجماعية. كذلك إنّ المرحلة الثامنة هل الاضطهاد، حيث تقوم الجهة التي تنوي الإبادة باضطهاد الجماعات الأخرى بعدة وسائل سواء القتل والتهجير والحرمان من الحقوق والتجويع... وفي هذه المرحلة يتحدث عن أنه يفترض اتخاذ الأمم المتحدة تدابير صارمة لمنع حدوث الإبادة ومد المساعدات الانسانية. أما المرحلة التاسعة فهي الافناء أي القتل الجماعي والتي تعرف بالإبادة الجماعية. ويتحدث ستانتس عن ضرورة تدخل الجهات الدولية عسكرياً لإيقافها وتوفير مناطق آمنة. وأخيراً فإنّ المرحلة العاشرة هي الإنكار، حيث ينكر فيها مرتكبي الإبادة الجماعية سواء خلالها أو بعدها قيامهم بالإبادة ويحاولون اخفاء جميع الدلائل. وهنا يؤكد ستانتس على ضرورة خضوع مرتكبي الجرائم للمحاكمة الدولية.

 

نماذج عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية

إنّ التاريخ مليء بالجرائم التي ارتكبت وتعد أفعالها بمثابة إبادة جماعية، لا سيما خلال الحرب العالمية الأولى أو خلال الحرب العالمية الثانية وما بعد هذه الحقبة. وستُعرض بعض النماذج لتبيان كيف تم ممارستها على بعض الجماعات:

- الإبادة الجماعية في يوغسلافيا السابقة: يُعد النزاع في يوغسلافيا السابقة من الأعنف في أوروبا بعد الجرائم التي شهدتها في ظل الحرب العالمية الثانية. حيث بعد إعلان استقلال البوسنة والهرسك في العام 1992 ومن ثم إعلان كرواتيا وسلوفينيا استقلالهما في نفس العام، رفضت كل من صربيا وسلوفينيا هذا الأمر. فنتج عن ذلك "نشوب نزاعات مسلحة بين القوميات المختلفة، وخاصة بين الصرب والكروات والمسلمين في جمهورية البوسنة والهرسك، عقب انفصالها عن الاتحاد اليوغسلافي السابق، وقع خلاها الكثير من الفظائع وأعمال القتل، التي اتخذت أشكال عدة منها الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، والاغتصاب المنظم، والتعذيب، وإبعاد المدنيين الجماعي." وكانت هذه الجرائم بمثابة انتهاك لكافة الحقوق والحريات التي جاءت الاتفاقيات والقوانين الدولية لتكرسها. إذ أنّ ابادة سربرنتشا (Serbrencia) في البوسنة هي الأعنف، التي قام بها الصرب ضد المسلمين، حيث "راح ضحيتها حوالي ثمانية آلاف بوسني" وهذا ما أدى إلى الإعتراف بها على أساس أنها إبادة عرقية.

- الإبادة الجماعية في رواندا: تعد الإبادة التي حصلت في رواندا من أكثر الجرائم فظاعةً بسب الانتهاكات الجسيمة التي حصلت. وقد قامت هذه الابادة في العام 1994، حيث "اندلع نزاع مسلح خطير في رواندا بين قبائل التوتسي وقبائل الهوتو، خلّف عددا كبيراً من الضحايا المدنيين، وصل إلى أكثر من ثمان مئة ألف قتيل." وقد حدثت هذه الإبادة بعد اسقاط طائرة كانت تقل الرئيس الرواندي والرئيس البورندي، فاعتقد الهوتو أن التوتسي وراء اسقاط الطائرة. إذ أن الهدف الأساسي للنزاع في رواندا كان للقضاء التام على طرف ما لصالح طرف آخر. وقد قامت قبيلة الهوتو بارتكاب الجرائم المتطرفة لإبادة التوتسي وحضّرت لها من خلال التسليح وإلى جانب هذه الجرائم، قامت في تلك الفترة بمذبحة أبادت فيها "نصف مليون من التوتسي، والبعض يضع الرقم بحدود مليون، ويشكل هؤلاء الغالبية العظمى من التوتسي." وفي النهاية تم تشكيل المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في سبيل معاقبة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية فيها ومنتهكي القواعد الانسانية الدولية. 

- الإبادة الجماعية في كمبوديا: تُعتبر أيضاً الحالة الكمبودية من حالات الإبادة الجماعية التي ارتكبت فيها أفظع الجرائم. وهي التي بدأتها قوات الخمير الحمر (الحزب الشيوعي الكمبودي) بقيادة بول بوت (Pol Bot) في العام 1975 من خلال اقتحام العاصمة الكمبودية لتشكيل نظام شيوعي. فعملوا على اخراج السكان الأصليين من المدن وارسالهم إلى الأرياف للعمل في الزراعة بظروف صعبة بلا رواتب أو حقوق أو أوقات راحة. "وهكذا أدت العملية التي هدفت بالأساس إلى التطهير السياسي، إلى عملية إبادة غير منظمة في معظم الأحيان، كان سلاحها الجوع والأمراض والعمل القاسي بالسخرة؛ فالحالة الكمبودية هي من حالات الإبادة النادرة التي جاءت نتيجة فرض المجاعة على السكان لأنهم يختلفون سياسياً عن نظام الحكم القائم." كذلك قاموا بقتل عدد من الموظفين السابقين الذين كانوا يحاولون الهروب، وارتكبوا جرائم بالعديد من الذين يخالفون الخمير الحمر بالأيديولوجيا وطردوا عدد كبير من السكان ومارسوا القتل والتنكيل بصورة جماعية. "'قد راح ضحيتها من سنة 1975 حتى سنة 1979 حوالي مليون وسبعمئة ألف كمبودي'." ومن ثم دخلت القوات الفيتنامية كمبوديا في العام 1979 لإنهاء الابادة، مما جعل العالم على خلاف حول مدى شرعية هذا التدخل.

 

دور القضاء الدولي في معاقبة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية

تشكلت محاكم دولية خاصة لمعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية وتحقيق العدالة، كما أنشئت المحكمة الجنائية الدولية بموجب نظام روما الذي نص في المادة الأولى منه على أن "تكون المحكمة هيئة دائمة لها السلطة لممارسة اختصاصها على الأشخاص إزاء أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي..." وستعرض تجربة كل من المحكمة الخاصة بيوغوسلافيا السابقة والمحكمة الخاصة برواندا لمعرفة الدور الذي لعبته في مجال محاكمة مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية:

- المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة: نشأت هذه المحكمة في العام 1993 وقد تم اعطائها الاختصاص بالنظر في جرائم الحرب وانتهاكات قوانين الحرب وأعرافها وإبادة الجنس والجرائم ضد الإنسانية. إذ حُددت اختصاصاتها بمحاكمة الأفراد المرتكبين للجرائم والانتهاكات في يوغسلافيا السابقة. "وتمكنت المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا خلال عشر سنوات أن توجه الاتهام رسمياً بانتهاك القانون الانساني إلى أكثر من (120) متهماً، وتملك المحكمة (أيضاً) لائحة سرية بمتهمين أبقت أسمائهم مخفية تمهيداً لمعاقبتهم." وقد أثبتت الاتهامات على عدد من الأشخاص من أمثال راتكو ملاديتش الذي كان يشغل مناصب عسكرية كرئيس هيئة الأركان ابان تلك المرحلة اذ اتهم بأنه قد "ارتكب جملة من الأفعال بنية الإبادة الجزئية لجماعة عرقية أو دينية أو قومية من مسلمي البوسنة في بعض البلدات في البوسنة والهرسك، حيث كانت قوات صرب البوسنة تحت امرته وقيادته فاستهدفت جزءاً كبيراً من جماعة المسلمين البوسنة بغرض الإبادة المعتمدة." كذلك تنفيذه جرائم أخرى مثل التعذيب...

- المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا: تشكلت هذه المحكمة في العام 1994 حيث اتخذ قرار من قبل مجلس الأمن "بإنشاء محكمة خاصة لمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب هذه الانتهاكات، يكون مقرها خارج الأراضي الرواندية في آروشا- تنزانيا." وهي كالمحكمة الجنائية الدولية في يوغسلافيا اختصت بالنظر في الجرائم الدولية ومن بينها الإبادة الجماعية التي قام بها الأفراد. وكذلك حاكمت العديد من الأفراد الذين قاموا بهذه الجرائم من أمثال جان كامباندا (رئيس وزراء رواندا) "وهو أول رئيس حكومة تدينه محكمة دولية في تهمة إبادة الجنس. وقد حكمت عليه المحكمة بالسجن مدى الحياة."

 

مشاكل تواجه المحاكم الدولية لمعاقبة مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية 

تتعدد وجهات النظر حول مدى فعالية القضاء الدولي من خلال المحاكم الدولية فيما يتعلق بالإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. واعتبر البعض أنها تواجه مجموعة من المشاكل التي تعيق عملها ولعلّ أبرزها:

- يحاول كل من إدوارد هيرمان- Edward Hermann و وديفيد بيترسون- David Peterson تسليط الضوء على الخطط التي تعدها "الولايات المتحدة/ الناتو التي تكمن وراء مزاعم 'التدخل الإنساني'، والمحاكمات الانتقائية التي قامت بها جميع المحاكم الجنائية الدولية حتى الآن."

- يتحدث وليم نصّار عن صعوبة تحديد أركان الإبادة الجماعية، إذ أنّ واجهت "المحاكم الجنائية الدولية مشكلة اثبات أركان الجرائم على المتهمين باقترافها." وقد أعطى مثال أنّ في حالات الإبادة الجماعية يجب اثبات أن الجاني كان على علم بأن هذه الخطة تستهدف الفناء الكلي أو الجزئي لتلك المجموعة. وذكر أيضاً مشكلة أخرى مرتبطة بالعفو عن المرتكبين بسبب المصالحات الوطنية التي تحدث لإنهاء النزاع الداخلي، وحتى أنّ في بعض الحالات قد تتجنب الجهة المنتصرة مقاضاة أفراد من الجماعة المهزومة لكي لا يتضح في التحقيق أنها هي أيضاً قد ارتكبت هذا النوع من الجرائم.

- تذكر ليلا نقولا أنّ هذه المحاكم لم تستطع أن تحقق السلام والاستقرار لأنه "سيطرت مصالح الدول الكبرى على تلك المحاكم ففرضت أجنداتها على المحاكمات والقرارات الاتهامية والأشخاص المستهدفين." وتعتبرها أنها غير حيادية وتابعة للدول المنتصرة مما يزعزع الشرعية الشعبية لها.

لذا فإنّ جرائم إبادة جماعية عدة طُبقت على جماعات من شعوب العالم راح ضحيتها ملايين الأفراد وتسببت بويلات فظيعة نتج عنها حرمان جماعات من أبسط مقومات الحياة، والمقابل اتفاقيات ومحاكم دولية عُقدت لمنع وقوعها ومعاقبة مرتكبيها. ولكن ما زالت تُنفذ جرائم ابادة في مناطق أخرى من العالم مثل الحالة الفلسطينية أو ما تشهده أقلية الروهينجا في ميانمار. فهل هذه الاتفاقيات والمحاكم لم تستطع أن تكون أداة رادعة لجهات تعتبر نفسها فوق كل هذه الاعتبارات؟ وما هي الإجراءات التي يمكن اتخاذها لتكون أكثر فعالية لمنع حصول حالات إبادة جماعية من جديد؟

 

المصادر والمراجع:

محمد خليل الباشا، الكافي معجم عربي حديث، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، لبنان، 1999.

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، القاموس المحيط، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، لبنان، 2007.

غراهام ايفانز وجيفري نيونهام، قاموس بنغوين للعلاقات الدولية، مركز الخليج للأبحاث، الطبعة الأولى، الإمارات العربية المتحدة، 2004.

اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها المقرة في العام 1948 والمعمول بها بتاريخ 1951، 09-12-1948.

وليم نصار، مفهوم الجرائم ضد الانسانية في القانون الدولي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، لبنان، 2008.

زياد ربيع، جرائم الإبادة الجماعية، دراسات دولية، العدد التاسع والخمسون، غير محدد، جامعة جرش كلية الحقوق، الأردن.

مارتن شو، الإبادة الجماعية مفهومها- وجذورها- وتطورها- وأين حدثت؟، ترجمة محيي الدين حميدي، العبيكان.

أنس العزاوي، التدخل الدولي الإنساني بين ميثاق الأمم المتحدة والتطبيق العملي- دراسة مقارنة، دار الجنان، الطبعة الأولى، السودان، 2009.

طارق المجذوب، ومحمد المجذوب، القانون الدولي الإنساني، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2009.

غير محدد، ليلا نقولا الرحباني، وآخرون، المحاكم الدولية الخاصة قراءة في التجارب، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، لبنان، 2011.

نظام روما الأساسي المؤرخ بتاريخ 17-07-1998 والمعمول به بتاريخ 01-07-2002، المادة الأولى.

أحمد العبادي، رسالة مقدمة لنيل درجة ماجستير بعنوان: دور المحاكم الجنائية الدولية الخاصة في تحديد جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها كلية الحقوق قسم القانون العام، جامعة الشرق الأوسط، غير محدد، 2016.

 حسين علوان حسين، مقال صحفي بعنوان: سياسات مصطلح- الإبادة الجماعية، منشور عبر موقع الحوار المتمدن بتاريخ 10/03/2020، تاريخ آخر دخول: 26-05-2021.

Gregory H. Stanton, The Ten Stages of Genocide, published on Genocide Watch, 2016, visited on 20 May 2021 at 10:30.

إقرأ أيضاً

شارك أصدقائك المقال

ابقى على اﻃﻼع واشترك بقوائمنا البريدية ليصلك آخر مقالات ومنح وأخبار الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ

ﺑﺘﺴﺠﻴﻠﻚ في ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ البريدية، فإنَّك ﺗﻮاﻓﻖ ﻋﻠﻰ اﺳﺘﻼم اﻷﺧﺒﺎر واﻟﻌﺮوض والمعلوﻣﺎت ﻣﻦ الموسوعة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ - Political Encyclopedia.

اﻧﻘﺮ ﻫﻨﺎ ﻟﻌﺮض إﺷﻌﺎر الخصوصية الخاص ﺑﻨﺎ. ﻳﺘﻢ ﺗﻮفير رواﺑﻂ ﺳﻬﻠﺔ لإﻟﻐﺎء الاشترك في ﻛﻞ ﺑﺮﻳﺪ إلكتروني.


كافة حقوق النشر محفوظة لدى الموسوعة السياسية. 2024 .Copyright © Political Encyclopedia